الخميس، 19 يناير 2012

حقيقة تلقين الميت : حكمه وموقف العلماء منه


بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله, والصلاة والسلام على
رسول الله, وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد: فهذه نقلة يسيرة تتضمن
أصل التلقين وحكمه وموقف العلماء منه.
وقد أصبحت المسألة مثار جدل ونقاش
بين من يعتبر المسألة باطلة لا أصل لها , وبين من يأخذ بها ويعمل بمقتضاها , فأردت
هنا أن أزيل اللبس عن حقيقة المسألة لعل القارئ يتوصل بنفسه إلى عين الصواب من خلال
النصوص والآثار التي سنوردها في بحثنا هذا , فأقول مستعينا بالله عز وجل :
أما أصل التلقين فهو الحديث
الذي رواه الإمام الطبراني في معجمه الكبير ,فقد خَرَّج ـــ رحمه الله ـــ بسنده عن
الصحابي أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه ,فقال: حَدَّثَنَا أَبُو عَقِيلٍ أَنَسُ
بن سَلْمٍ الْخَوْلانِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بن إِبْرَاهِيمَ بن الْعَلاءِ
الْحِمْصِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بن عَيَّاشٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُاللَّهِ بن
مُحَمَّدٍ الْقُرَشِيُّ، عَنْ يَحْيَى بن أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ سَعِيدِ بن عَبْدِ
اللَّهِ الأَوْدِيِّ، قَالَ: شَهِدْتُ أَبَا أُمَامَةَ وَهُوَ فِي النَّزْعِ،
فَقَالَ:
" إِذَا أَنَا مِتُّ، فَاصْنَعُوا بِي كَمَا أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نصْنَعَ بِمَوْتَانَا، أَمَرَنَا رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ:"إِذَا مَاتَ أَحَدٌ مِنْ
إِخْوَانِكُمْ، فَسَوَّيْتُم التُّرَابَ عَلَى قَبْرِهِ، فَلْيَقُمْ أَحَدُكُمْ
عَلَى رَأْسِ قَبْرِهِ، ثُمَّ لِيَقُلْ: يَا فُلانَ بن فُلانَةَ، فَإِنَّهُ
يَسْمَعُهُ وَلا يُجِيبُ، ثُمَّ يَقُولُ: يَا فُلانَ بن فُلانَةَ، فَإِنَّهُ
يَسْتَوِي قَاعِدًا، ثُمَّ يَقُولُ: يَا فُلانَ بن فُلانَةَ، فَإِنَّهُ يَقُولُ:
أَرْشِدْنَا رَحِمَكَ اللَّهُ، وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ، فَلْيَقُلْ: اذْكُرْ مَا
خَرَجْتَ عَلَيْهِ مِنَ الدُّنْيَا شَهَادَةَ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ،
وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّكَ رَضِيتَ بِاللَّهِ رَبًّا،
وَبِالإِسْلامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا، وَبِالْقُرْآنِ إِمَامًا، فَإِنَّ
مُنْكَرًا وَنَكِيرًا يَأْخُذُ وَاحِدٌ مِنْهُمْا بِيَدِ صَاحِبِهِ، وَيَقُولُ:
انْطَلِقْ بنا مَا نَقْعُدُ عِنْدَ مَنْ قَدْ لُقِّنَ حُجَّتَهُ، فَيَكُونُ
اللَّهُ حَجِيجَهُ دُونَهُمَا"، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنْ
لَمْ يَعْرِفْ أُمَّهُ؟ قَالَ:"فَيَنْسِبُهُ إِلَى حَوَّاءَ، يَا فُلانَ بن
حَوَّاءَ".انتهى من كتاب: المعجم الكبير لمؤلفه : سليمان ابن أحمد بن أيوب بن
مطير اللخمي الشامي، أبو القاسم الطبراني (المتوفى : 360هـ), الحديث رقم:7906 ,ج:7
,ص:286 .
والحديث له طرق يتقوى بها،يقول ا لإمام ابن الملقن رحمه الله كما في :"خلاصة
البدر المنير": "رواه الطبراني في أكبر معاجمه هكذا، وليس في إسناده إلا
سعيد بن عبد الله فلا أعرفه، وله شواهد كثيرة يعتضد بها ذكرتها في الأصل ,
وإِسْنَاده لَا أعلم بِهِ بَأْسا ، وَذكره الْحَافِظ أَبُو مَنْصُور فِي «جَامع
الدُّعَاء الصَّحِيح» ، وَزَاد بعد قَوْله : «قد لقن حجَّته» : «وَيكون الله
(حجَّته) دونهمَا» . قَالَ : وَقد أرخص الإِمَام أَحْمد بن حَنْبَل فِي تلقين
الْمَيِّت ، وَأَعْجَبهُ ذَلِك ، وَقَالَ : (أهل) الشَّام يَفْعَلُونَهُ . قَالَ
أَبُو مَنْصُور : وَهُوَ من العزمات والتذكير بِاللَّه ، و (السماح) بذلك مأثور
عَن السّلف ، وَقَالَ الْحَافِظ زَكى الدّين فِي الْجُزْء الَّذِي خرجه فِي
التَّلْقِين بعد أَن سَاقه : وَفِيه بعد الشَّهَادَتَيْنِ «وَأَن السَّاعَة آتِيَة
لَا ريب فِيهَا ، وَأَن الله (يبْعَث) من فِي الْقُبُور» . قَالَ أَبُو نعيم
الْحداد : هَذَا حَدِيث غَرِيب من حَدِيث حَمَّاد بن زيد ، مَا كتبته إِلَّا من
حَدِيث سعيد (الْأَزْدِيّ) ، وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم : سعيد (الْأَزْدِيّ) عَن
أبي أُمَامَة الْبَاهِلِيّ رَوَى عَنهُ ... سَمِعت أبي يَقُول ذَلِك . قَالَ
الْمُنْذِرِيّ : هَكَذَا قَالَ : (الْأَزْدِيّ) وَوَقع فِي روايتنا «الأودي» ،
وَهُوَ مَعْنَى الْمَجْهُول ، وَقَالَ الذَّهَبِيّ فِي «الْمُغنِي فِي
الضُّعَفَاء» : سعيد (الْأَزْدِيّ) لم أر لَهُ ذكر فِي الضُّعَفَاء وَلَا غَيرهم .
قلت : لَكِن حَدِيثه هَذَا لَهُ شَوَاهِد يعتضد بهَا".انتهى من كتاب: البدر
المنير في تخريج الأحاديث والأثار الواقعة في الشرح الكبير لمؤلفه: ابن الملقن
سراج الدين أبو حفص عمر بن علي بن أحمد الشافعي المصري (المتوفى : 804هـ)ج:5 ص:335.
ويقول الحافظ ابن حجر العسقلاني
في كتابه التلخيص الحبير :"وإسناده ـــ أي الحديث ــــــ صالح وقد قواه
الضياء في أحكامه, وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ فِي الشَّافِي وَالرَّاوِي عَنْ
أَبِي أُمَامَةَ سَعِيدٌ الْأَزْدِيُّ بَيَّضَ لَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَلَكِنْ
لَهُ شَوَاهِدُ مِنْهَا مَا رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ رَاشِدِ
بْنِ سَعْدٍ وَضَمْرَةَ بْنِ حَبِيبٍ وَغَيْرِهِمَا قَالُوا إذَا سُوِّيَ عَلَى
الْمَيِّتِ قَبْرُهُ وَانْصَرَفَ النَّاسُ عَنْهُ كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ أَنْ
يُقَالَ لِلْمَيِّتِ عِنْدَ قَبْرِهِ يَا فُلَانُ قُلْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّه
قُلْ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّه ثَلَاثَ مَرَّاتٍ قُلْ رَبِّي اللَّهُ
وديني الإسلام ونبيي محمد ثم ينصرف." ج:2,ص:311 من كتاب: التلخيص الحبير في
تخريج أحاديث الرافعي الكبير,لمؤلفه : أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن
حجر العسقلاني (المتوفى : 852هـ).
ويقول ابن
حجر الهيثمي في تحفة المحتاج الجزء الثالث:
(ويستحب تلقين بالغ عاقل أو مجنون سبق له تكليف ولو شهيدا كما اقتضاه إطلاقهم بعد
تمام الدفن لخبر فيه وضعفه اعتضد بشواهد على أنه من الفضائل) على هذا فإن الحديث
يعمل به على أن التلقين من باب الفضائل.
ويقول ابن القيم رحمه الله في
كتابه:الروح: فصل ويدل على هذا أيضا ما جرى عليه عمل الناس قديما وإلى الآن: من
تلقين الميت في قبره ولولا أنه يسمع ذلك وينتفع به لم يكن فيه فائدة وكان عبثا وقد
سئل عنه الإمام أحمد رحمه الله فاستحسنه واحتج عليه بالعمل, ويروى فيه حديث ضعيف
ذكره الطبراني في معجمه من حديث أبى أمامة قال قال رسول الله إذا مات
أحدكم.....الحديث*
فهذا الحديث وإن لم يثبت فاتصال العمل به في
سائر الأمصار والأعصار من غير إنكار كاف في العمل به وما أجرى الله سبحانه العادة
قط بأن أمه طبقت مشارق الأرض ومغاربها وهي أكمل الأمم عقولا وأوفرها معارف تطيق
على مخاطبة من لا يسمع ولا يعقل وتستحسن ذلك لاينكره منها منكر بل سنه الأول للآخر
ويقتدي فيه الآخر بالأول فلولا أن المخاطب يسمع لكان ذلك بمنزلة الخطاب للتراب
والخشب والحجر والمعدوم وهذا وان استحسنه واحد فا لعلماء قاطبة على استقباحه
واستهجانه
وقد روى أبو داود في سننه بإسناد لا بأس به أن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم حضر جنازة رجل فلما دفن قال سلوا لأخيكم التثبيت
فإنه الآن يسأل فأخبر أنه يسأل حينئذ وإذا كان يسأل فإنه يسمع التلقين
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن
الميت يسمع قرع نعالهم إذا ولوا منصرفين. انتهى من كتاب: الروح في الكلام على
أرواح الأموات والأحياء بالدلائل من الكتاب والسنة لمؤلفه : محمد بن أبي بكر أيوب
الزرعي أبو عبد الله ابن القيم الجوزية,ج:1,ص:13 .


ويقول فخر الدين عثمان بن علي
الزيلعي (المتوفى : 743هـ) في كتابه: تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق:ج:3 ,ص:157:
قَالَ فِي الْحَقَائِقِ قَالَ صَاحِبُ الْغِيَاثِ سَمِعْت أُسْتَاذِي قَاضِي خَانْ
يَحْكِي عَنْ ظَهِيرِ الدِّينِ الْمَرْغِينَانِيِّ أَنَّهُ لَقَّنَ بَعْضَ
الْأَئِمَّةِ بَعْدَ دَفْنِهِ ، وَأَوْصَانِي بِتَلْقِينِهِ فَلَقَّنْتُهُ بَعْدَ
مَا دُفِنَ ثُمَّ نَقَلَ صَاحِبُ الْحَقَائِقِ مَا نَقَلَهُ أَوَّلًا عَنْ قَاضِي
خَانْ .
وَعِبَارَتُهُ فِي
الْمَنْظُومَةِ فِي بَابِ الشَّافِعِيِّ وَيَحْسُنُ التَّلْقِينُ وَالتَّسْمِيعُ ،
قَالَ فِي الْحَقَائِقِ ذَكَرَ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ الصَّفَّارُ فِي
التَّلْخِيصِ أَنَّ تَلْقِينَ الْمَيِّتِ مَشْرُوعٌ لِأَنَّهُ تُعَادُ إلَيْهِ
رُوحُهُ ، وَعَقْلُهُ وَيَفْهَمُ مَا يُلَقَّنُ قُلْت وَلَفْظُ التَّسْمِيعِ
يُخَرَّجُ عَلَى هَذَا وَصُورَتُهُ أَنَّهُ يَقُولُ يَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ
اُذْكُرْ دِينَكَ الَّذِي كُنْتَ عَلَيْهِ رَضِيتَ بِاَللَّهِ رَبًّا
وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
نَبِيًّا ، وَعَلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةُ لَا يُفِيدُ التَّلْقِينُ بَعْدَ
الْمَوْتِ ؛ لِأَنَّ الْإِحْيَاءَ عِنْدَهُمْ مُسْتَحِيلٌ .
ا هـ مَا قَالَهُ فِي الْحَقَائِقِ .
وفي كتاب: درر الحكام شرح غرر
الأحكام لمؤلفه : محمد بن فراموز الشهير بمنلا خسرو (المتوفى : 885هـ):ج:2,ص:244:
وَأَمَّا تَلْقِينُ الْمَيِّتِ فِي الْقَبْرِ فَمَشْرُوعٌ عِنْدَ أَهْلِ
السُّنَّةِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحْيِيهِ فِي الْقَبْرِ وَصُورَتُهُ أَنْ
يُقَالَ : يَا فُلَانَ بْنَ فُلَانَةَ أَوْ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ
اللَّهِ اُذْكُرْ دِينَك الَّذِي كُنْتَ عَلَيْهِ وَقُلْ رَضِيتُ بِاَللَّهِ
رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا وَالْأَشْهَرُ أَنَّ
السُّؤَالَ حِينَ يُدْفَنُ وَقِيلَ فِي بَيْتِهِ تُقْبَضُ عَلَيْهِ الْأَرْضُ
وَتَنْطَبِقُ كَالْقَبْرِ ، فَإِنْ قِيلَ هَلْ يُسْأَلُ الطِّفْلُ الرَّضِيعُ
فَالْجَوَابُ أَنَّ كُلَّ ذِي رُوحٍ مِنْ بَنِي آدَمَ ، فَإِنَّهُ يُسْأَلُ فِي
الْقَبْرِ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ السُّنَّةِ لَكِنْ يُلَقِّنُهُ الْمَلَكُ فَيَقُولُ
لَهُ : مَنْ رَبُّك ثُمَّ يَقُولُ لَهُ : قُلْ اللَّهُ رَبِّي ثُمَّ يَقُولُ لَهُ
: مَا دِينُك ثُمَّ يَقُولُ لَهُ قُلْ دِينِي الْإِسْلَامُ ثُمَّ يَقُولُ لَهُ
مَنْ نَبِيُّك ثُمَّ يَقُولُ لَهُ قُلْ نَبِيِّ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا يُلَقِّنُهُ بَلْ يُلْهِمُهُ اللَّهُ
حَتَّى يُجِيبَ كَمَا أَلْهَمَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْمَهْدِ ا هـ .
وفي كتاب التاج والإكليل لمختصر
خليل لمؤلفه محمد بن يوسف بن أبي القاسم العبدري أبو عبد الله
المتوفى سنة 897ه,ج:2,ص:238: قَالَ
أَبُو حَامِدٍ : وَيُسْتَحَبُّ تَلْقِينُ الْمَيِّتِ بَعْدَ الدَّفْنِ .
وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي
مَسَالِكِهِ : إذَا أُدْخِلَ الْمَيِّتُ قَبْرَهُ فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ تَلْقِينُهُ
فِي تِلْكَ السَّاعَةِ وَهُوَ فِعْلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ الصَّالِحِينَ مِنْ
الْأَخْيَارِ لِأَنَّهُ مُطَابِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَذَكِّرْ فَإِنَّ
الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ } وَأَحْوَجُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ إلَى
التَّذْكِيرِ بِاَللَّهِ عِنْدَ سُؤَالِ الْمَلَائِكَةِ.
وفي كتاب : تحفة الحبيب على شرح
الخطيب ( البجيرمي على الخطيب )
لمؤلفه : سليمان بن محمد بن عمر
البجيرمي الشافعي ج:2,ص:587: وعبارة المرحومي : ويسن تلقين الميت لقوله تعالى : (
وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين ). وأحوج ما يكون العبد إلى التذكر في هذه الحالة ،
وهو : يا عبد الله ابن أمة الله اذكر العهد الذي خرجت عليه من الدنيا شهادة أن لا
إله إِلا الله وأن محمداً رسول الله وأن الجنة حق وأن النار حق وأن القبر حق وأن
الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور ، وأنك رضيت بالله رباً وبالإسلام
ديناً وبمحمد نبياً ورسولاً وبالقرآن إماماً وبالكعبة قبلة وبالمؤمنين إخواناً .
ويسنّ إعادة التلقين ثلاثاً ، ويستحب أن يقرأ عنده شيء من القرآن ، وإن ختموا
القرآن كان أفضل ؛ شرح الروض اه .
وفي كتاب : حاشية الجمل على شرح
منهج الطلاب لمؤلفه : سليمان بن عمر الجمل (المتوفى : 1204هـ)[ هو حاشية على (شرح
منهج الطلاب) الذي شرح به زكريا الأنصاري (المتوفى : 926هـ) كتابه منهج الطلاب.
ومنهج الطلاب هذا هو مختصر اختصره زكريا الأنصاري من منهاج الطالبين للنووي
(المتوفى : 676 هـ) ]:ج:7,ص:201: وَيُسْتَحَبُّ تَلْقِينُ الْمَيِّتِ الْمُكَلَّفِ
بَعْدَ تَمَامِ دَفْنِهِ لِخَبَرِ { إنَّ الْعَبْدَ إذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ
وَتَوَلَّى عَنْهُ أَصْحَابُهُ أَنَّهُ يَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ فَإِذَا
انْصَرَفُوا أَتَاهُ مَلَكَانِ } الْحَدِيثَ فَتَأْخِيرُ تَلْقِينِهِ لِمَا بَعْدَ
إهَالَةِ التُّرَابِ أَقْرَبُ إلَى حَالَةِ سُؤَالِهِ فَيَقُولُ لَهُ يَا عَبْدَ
اللَّهِ ابْنَ أَمَةِ اللَّهِ اُذْكُرْ مَا خَرَجْت عَلَيْهِ مِنْ الدُّنْيَا
شَهَادَةَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ
وَأَنَّ الْجَنَّةَ حَقٌّ وَأَنَّ النَّارَ حَقٌّ وَأَنَّ الْبَعْثَ حَقٌّ وَأَنَّ
السَّاعَةَ آتِيَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي
الْقُبُورِ وَأَنَّك رَضِيت بِاَللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا
وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيًّا وَرَسُولًا وَبِالْقُرْآنِ
إمَامًا وَبِالْكَعْبَةِ قِبْلَةً وَبِالْمُؤْمِنِينَ إخْوَانًا وَأَنْكَرَ
بَعْضُهُمْ قَوْلَهُ ابْنَ أَمَةِ اللَّهِ ؛ لِأَنَّ الْمَشْهُورَ دُعَاءُ
النَّاسِ بِآبَائِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ الْبُخَارِيُّ
فِي صَحِيحِهِ .
ويقول الشيخ عبد الغني الغنيمي الدمشقي الحنفي في كتابه اللباب في شرح الكتاب
ج1/125 قال: "وأما تلقينه (أي الميت) في القبر فمشروع عند أهل السنة لأن الله
تعالى يحييه في قبره". انتهى.
أما الإمام القرطبي صاحب التفسير المشهور فقد أفرد للتلقين باباً من كتابه التذكرة
بأحوال الموتى والآخرة (ص138-139) أسماه: باب ما جاء في تلقين الإنسان بعد موته
شهادة الإخلاص في لحده، وقد ذكر أن العمل جرى في قرطبة على تلقين الميت واستشهد
بنصيحة شيخه أبي العباس القرطبي في جواز التلقين.
وقال الإمام النووي في المجموع ج5/303-304: "قال جماعات من أصحابنا يستحب
تلقين الميت عقب دفنه" .. ثم قال: "ممن نص على استحبابه: القاضي حسين
والمتولي والشيخ نصر المقدسي" ... وقال: "وسئل الشيخ أبو عمرو بن الصلاح
رحمه الله عنه فقال: التلقين هو الذي نختاره ونعمل به"، ثم قال النووي: "ولم
يزل أهل الشام على العمل بهذا في زمن من يُقتدى به وإلى الآن". انتهى كلام
النووي.
وقال الإمام أبو القاسم الرافعي الشافعي في كتابه فتح العزيز بشرح الوجيز (المطبوع
في أسفل كتاب المجموع ج5/242): "ويستحب أن يُلقن الميت بعد الدفن فيقال: يا
عبد الله بن أمة الله ...إلى آخره .
وقد ذكر الإمام منصور بن يوسف البهوتي الحنبلي في كتابه الروض المربع ص104 التلقين
ورجحه.
ويقول الإمام المرداوي الحنبلي في كتابه الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف
ج2/548-549 : "فائدة يستحب تلقين الميت بعد دفنه عند أكثر الأصحاب".
انتهى. تنبيه:ثبت سماع الموتى في أحاديث مشهورة ،ومنهاما رواه البخاري أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قام على قليب بدر وفيه قتلى المشركين فجعل يناديهم
بأسمائهم وأسماء ءابائهم "يا فلان ابن فلان"، قال: "إنا وجدنا ما
وَعَدنا ربنا حقاً فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً"، فقال عمر: "ما
تُكَلّم من أجساد لا أرواح لها"، فقال رسول الله: "والذي نفس محمد بيده
ما أنتم بأسمع ما أقول منهم"، وكذلك حديث البخاري الذي رواه عن أنس عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن العبد إذا وُضع في قبره وتولى عنه أصحابه
إنه ليسمع قرع نعالهم.إهـ.
وأما قوله تعالى: "وَمَآ أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ"،
فالمراد بها تشبيه الكفار بمن في القبور في عدم انتفاعهم بكلامه عليه الصلاة
والسلام وهم أحياء، ذكره ابن حجر في الفتح ج7/354 والقرطبي في تفسيره
ج14/305)انتهى.
ويقول الإمام ابن كثير في
تفسيره لهذه الآية: { وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ } أي: كما لا
يسمع وينتفع الأموات بعد موتهم وصيرورتهم إلى قبورهم، وهم كفار بالهداية والدعوة
إليها، كذلك هؤلاء المشركون الذين كُتِب عليهم الشقاوة لا حيلةَ لك فيهم، ولا
تستطيع هدايتهم.تفسير ابن كثير ج:5,ص:543. وقال رحمه الله عند تفسيره لهذه الآية:
{ فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا
وَلَّوْا مُدْبِرِينَ وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ
تُسْمِعُ إِلا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ } .
يقول تعالى: كما أنك ليس في
قدرتك أن تسمع الأموات في أجداثها، ولا تبلغ كلامَك الصم الذين لا يسمعون، وهم مع
ذلك مُدْبِرُون عنك، كذلك لا تقدر على هداية العميان عن الحق، وردهم عن ضلالتهم،
بل ذلك إلى الله تعالى، فإنه بقدرته يسمع الأموات أصوات الأحياء إذا شاء، ويهدي
مَنْ يشاء، ويضل مَنْ يشاء، وليس ذلك لأحد سواه؛ ولهذا قال: { إِنْ تُسْمِعُ إِلا
مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ } أي: خاضعون مستجيبون مطيعون،
فأولئك هم الذين يستمعون الحق ويتبعونه، وهذا حال المؤمنين، والأول مَثَلُ
الكافرين، كما قال تعالى: { إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ
وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ }.
وقد استدلت أم المؤمنين عائشة،
رضي الله عنها، بهذه الآية: { إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى } ، على توهيم عبد
الله بن عمر في روايته مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم القتلى الذين ألقوا في
قَلِيب بدر ، بعد ثلاثة أيام، ومعاتبته إياهم وتقريعه لهم ، حتى قال له عمر: يا
رسول الله، ما تخاطب من قوم قد جَيَّفوا؟ فقال: "والذي نفسي بيده، ما أنتم
بأسمع لما أقول منهم، ولكن لا يجيبون". وتأولته عائشة على أنه قال:
"إنهم الآن ليعلمون أن ما كنت أقول لهم حق". وقال قتادة: أحياهم الله له
حتى سمعوا مقالته تقريعًا وتوبيخًا ونقمة.
والصحيح عند العلماء رواية ابن
عمر، لما لها من الشواهد على صحتها من وجوه كثيرة، من أشهر ذلك ما رواه ابن عبد
البر مصححًا [له] ، عن ابن عباس مرفوعًا: "ما من أحد يمر بقبر أخيه المسلم،
كان يعرفه في الدنيا، فيسلم عليه، إلا رد الله عليه روحه، حتى يرد عليه
السلام" .
[وثبت عنه صلى الله عليه وسلم
أن الميت يسمع قرع نعال المشيعين له، إذا انصرفوا عنه، وقد شرع النبي صلى الله
عليه وسلم لأمته إذا سلموا على أهل القبور أن يسلموا عليهم سلام من يخاطبونه فيقول
المسلم: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وهذا خطاب لمن يسمع ويعقل، ولولا هذا الخطاب
لكانوا بمنزلة خطاب المعدوم والجماد، والسلف مجمعون على هذا، وقد تواترت الآثار
عنهم بأن الميت يعرف بزيارة الحي له ويستبشر، فروى ابن أبي الدنيا في كتاب القبور
عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من
رجل يزور قبر أخيه ويجلس عنده، إلا استأنس به ورد عليه حتى يقوم".
وروي عن أبي هريرة، رضي الله
عنه، قال: إذا مر رجل بقبر يعرفه فسلم عليه، رد عليه السلام.
وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن
رجل من آل عاصم الجَحْدَرِي قال: رأيت عاصمًا الجحدري في منامي بعد موته بسنتين،
فقلت: أليس قد متّ؟ قال: بلى، قلت: فأين أنت؟ قال: أنا -والله -في روضة من رياض
الجنة، أنا ونفر من أصحابي نجتمع كل ليلة جمعة وصبيحتها إلى بكر بن عبد الله
المزني، فنتلقى أخباركم. قال: قلت: أجسامكم أم أرواحكم؟ قال: هيهات! قد بليت
الأجسام، وإنما تتلاقى الأرواح، قال: قلت: فهل تعلمون بزيارتنا إياكم؟ قال: نعلم
بها عشية الجمعة ويوم الجمعة كله ويوم السبت إلى طلوع الشمس، قال: قلت: فكيف ذلك
دون الأيام كلها؟ قال: لفضل يوم الجمعة وعظمته.
قال: وحدثنا محمد بن الحسين،
ثنا بكر بن محمد، ثنا حسن القصاب قال: كنت أغدو مع محمد بن واسع في كل غداة سبت
حتى نأتي أهل الجبان، فنقف على القبور فنسلم عليهم، وندعو لهم ثم ننصرف، فقلت ذات
يوم: لو صيرت هذا اليوم يوم الاثنين؟ قال: بلغني أن الموتى يعلمون بزوارهم يوم
الجمعة ويومًا قبلها ويومًا بعدها. قال: ثنا محمد، ثنا عبد العزيز بن أبان قال:
ثنا سفيان الثوري قال: بلغني عن الضحاك أنه قال: من زار قبرًا يوم السبت قبل طلوع
الشمس علم الميت بزيارته، فقيل له: وكيف ذلك؟ قال: لمكان يوم الجمعة.
حدثنا خالد بن خِدَاش، ثنا جعفر
بن سليمان، عن أبي التَّيَّاح يقول: كان مُطَرَّف يغدو، فإذا كان يوم الجمعة أدلج.
قال: وسمعت أبا التياح يقول: بلغنا أنه كان ينزل بغوطة، فأقبل ليلة حتى إذا كان
عند المقابر يقوم وهو على فرسه، فرأى أهل القبور كل صاحب قبر جالسًا على قبره،
فقالوا: هذا مطرف يأتي الجمعة ويصلون عندكم يوم الجمعة؟ قالوا: نعم، ونعلم ما يقول
فيه الطير. قلت: وما يقولون؟ قال: يقولون سلام عليكم؛ حدثني محمد بن الحسن، ثنا
يحيى بن أبي بكر ، ثنا الفضل بن الموفق ابن خال سفيان بن عيينة قال: لما مات أبي
جزعت عليه جزعًا شديدًا، فكنت آتي قبره في كل يوم، ثم قصرت عن ذلك ما شاء الله، ثم
إني أتيته يومًا، فبينا أنا جالس عند القبر غلبتني عيناي فنمت، فرأيت كأن قبر أبي
قد انفرج، وكأنه قاعد في قبره متوشح أكفانه، عليه سِحْنَة الموتى، قال: فكأني بكيت
لما رأيته. قال: يا بني، ما أبطأ بك عني؟ قلت: وإنك لتعلم بمجيئي؟ قال: ما جئت مرة
إلا علمتها، وقد كنت تأتيني فأسر بك ويسر من حولي بدعائك، قال: فكنت آتيه بعد ذلك
كثيرًا.
حدثني محمد، حدثنا يحيى بن
بَسْطام، ثنا عثمان بن سُوَيْد الطُّفَاوي قال: وكانت أمه من العابدات، وكان يقال
لها: راهبة، قال: لما احتضرت رفعت رأسها إلى السماء فقالت: يا ذخري وذخيرتي من
عليه اعتمادي في حياتي وبعد موتي، لا تخذلني عند الموت ولا توحشني. قال: فماتت.
فكنت آتيها في كل جمعة فأدعو لها وأستغفر لها ولأهل القبور، فرأيتها ذات يوم في
منامي، فقلت لها: يا أمي، كيف أنت؟ قالت: أي: بني، إن للموت لكربة شديدة، وإني
بحمد الله لفي برزخ محمود يفرش فيه الريحان، ونتوسد السندس والإستبرق إلى يوم
النشور، فقلت لها: ألك حاجة؟ قالت: نعم، قلت: وما هي؟ قالت: لا تدع ما كنت تصنع من
زياراتنا والدعاء لنا، فإني لأبشر بمجيئك يوم الجمعة إذا أقبلت من أهلك، يقال لي:
يا راهبة، هذا ابنك، قد أقبل، فأسر ويسر بذلك مَنْ حولي من الأموات.
حدثني محمد، حدثنا محمد بن عبد
العزيز بن سليمان، حدثنا بشر بن منصور قال: لما كان زمن الطاعون كان رجل يختلف إلى
الجبان، فيشهد الصلاة على الجنائز، فإذا أمسى وقف على المقابر فقال: آنس الله
وحشتكم، ورحم غربتكم، وتجاوز عن مسيئكم، وقبل حسناتكم، لا يزيد على هؤلاء الكلمات،
قال: فأمسيت ذات ليلة وانصرفت إلى أهلي ولم آت المقابر فأدعو كما كنت أدعو، قال:
فبينا أنا نائم إذا بخلق قد جاءوني، فقلت: ما أنتم وما حاجتكم؟ قالوا: نحن أهل
المقابر، قلت: ما حاجتكم؟ قالوا: إنك عودتنا منك هدية عند انصرافك إلى أهلك، قلت:
وما هي؟ قالوا: الدعوات التي كنت تدعو بها، قال: قلت فإني أعود لذلك، قال: فما
تركتها بعد.
وأبلغ من ذلك أن الميت يعلم
بعمل الحي من أقاربه وإخوانه. قال عبد الله بن المبارك: حدثني ثور بن يزيد، عن
إبراهيم، عن أيوب قال: تعرض أعمال الأحياء على الموتى، فإذا رأوا حسنًا فرحوا
واستبشروا وإن رأوا سوءًا قالوا: اللهم راجع به.
وذكر ابن أبي الدنيا عن أحمد بن
أبي الحواري قال: ثنا محمد أخي قال: دخل عباد بن عباد على إبراهيم بن صالح وهو على
فلسطين فقال: عظني، قال: بِمَ أعظك، أصلحك الله؟ بلغني أن أعمال الأحياء تعرض على
أقاربهم من الموتى، فانظر ما يعرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم من عملك، فبكى
إبراهيم حتى أخضل لحيته. انتهى من تفسير ابن كثير ج:6,ص:325,326 .
وقال الإمام الزركشي رحمه الله
في كتابه "الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة" ص (121):
"أخرج البخاري عن ابن عمر قال: وقف النبي صلى الله عليه وسلم على قليب بدر
فقال: "هل وجدتم ما وعد ربكم حقا" ثم قال: "إنهم الآن يسمعون ما
أقول" ، فذكر لعائشة فقالت: إنما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنهم
ليعلمون الآن أن ما كنت أقول لهم حق". قال السهيلي في الروض: "وعائشة لم
تحضر، وغيرها ممن حضر أحفظ للفظه صلى الله عليه وسلم، وقد قالوا له: يا رسول الله،
أتخاطب قوما قد جيفوا أو أجيفوا؟ فقال: "ما أنتم بأسمع لما أقول منهم" ،
وإذا جاز أن يكونوا في تلك الحال عالمين، جاز أن يكونوا سامعين، إما بآذان رؤوسهم،
إذا قلنا: إن الروح تعاد إلى الجسد أو إلى بعضه عند المسألة. وهو قول جمهور أهل
السنة، وإما بأذن القلب أو الروح على مذهب مَنْ يقول بتوجه السؤال إلى الروح من
غير رجوع إلى الجسد أو إلى بعضه. قال: وقد روي أن عائشة احتجت بقوله تعالى: (وما
أنت بمسمع من في القبور) وهذه الآية كقوله: (أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي) أي:
إن الله هو الذي يهدي ويوفق ويدخل الموعظة إلى آذان القلوب لا أنت، وجعل الكفار
أمواتًا وصمًا على جهة التشبيه بالأموات وبالصم، فالله هو الذي يسمعهم على الحقيقة
إذا شاء، فلا تعلق لها في الآية لوجهين: أحدهما: أنها إنما نزلت في دعاء الكفار
إلى الإيمان، الثاني: أنه إنما نفى عن نبيه أن يكون هو المسمع لهم، وصدق الله،
فإنه لا يسمعهم إذا شاء إلا هو".
وجاء في تفسير: أضواء البيان في
إيضاح القرآن بالقرآن لمؤلفه : محمد الأمين بن محمد المختار بن عبد القادر الجكني
الشنقيطي (المتوفى : 1393هـ), وبعد أن أورد المؤلف كلاما مطولا لابن القيم
قال:..... ثم ذكر ابن القيم تنفيذ خالد وأبي بكر الصديق رضي اللَّه عنهما، وصية
ثابت بن قيس بن شماس رضي اللَّه عنه بعد موته، وفي وصيّته المذكورة قضاء دين عينه
لرجل في المنام، وعتق بعض رقيقه، وقد وصف للرجل الذي رآه في منامه الموضع الذي جعل
فيه درعه الرجل الذي سرقها، فوجدوا الأمر كما قال، وقصّته مشهورة.
وإذا كانت وصية الميّت بعد موته
قد نفذها في بعض الصور أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فإن ذلك يدلّ على
أنه يدرك ويعقل ويسمع، ثم قال ابن القيم في خاتمه كلامه الطويل: والمقصود جواب
السائل وأن الميّت إذا عرف مثل هذه الجزئيات وتفاصيلها، فمعرفته بزيارة الحي له
وسلامه عليه ودعائه له أولى وأحرى"، اهـ.
فكلام ابن القيم هذا الطويل
الذي ذكرنا بعضه جملة وبعضه تفصيلاً، فيه من الأدلّة المقنعة ما يكفي في الدلالة
على سماع الأموات، وكذلك الكلام الذي نقلنا عن شيخه أبي العباس بن تيمية، وفي
كلامهما الذي نقلنا عنهما أحاديث صحيحة، وآثار كثيرة، ومرائي متواترة وغير ذلك،
ومعلوم أن ما ذكرنا في كلام ابن القيّم من تلقين الميّت بعد الدفن، أنكره بعض أهل
العلم، وقال: إنه بدعة، وأنه لا دليل عليه، ونقل ذلك عن الإمام أحمد وأنه لم يعمل
به إلاّ أهل الشام، وقد رأيت ابن القيم استدلّ له بأدلّة، منها: أن الإمام أحمد
رحمه اللَّه سئل عنه فاستحسنه. واحتجّ عليه بالعمل. ومنها: أن عمل المسلمين اتّصل
به في سائر الأمصار والأعصار من غير إنكار. ومنها: أن الميّت يسمع قرع نعال
الدافنين إذا ولّوا مدبرين، واستدلاله بهذا الحديث الصحيح استدلال قوي جدًّا؛ لأنه
إذا كان في ذلك الوقت يسمع قرع النعال، فلأن يسمع الكلام الواضح بالتلقين من أصحاب
النعال أولى وأحرى، واستدلاله لذلك بحديث أبي داود: "سلوا لأخيكم التثبيت
فإنه الآن يسأل" ، له وجه من النظر؛ لأنه إذا كان يسمع سؤال السائل فإنه يسمع
تلقين الملقن، واللَّه أعلم.
والفرق بين سماعه سؤال الملك
وسماعه التلقين من الدافنين محتمل احتمالاً قويًّا، وما ذكره بعضهم من أن التلقين
بعد الموت لم يفعله إلا أهل الشام، يقال فيه: إنهم هم أول من فعله، ولكن الناس
تبعوهم في ذلك، كما هو معلوم عند المالكية والشافعية. قال الشيخ الحطاب في كلامه
على قول خليل بن إسحاق المالكي في مختصره: "وتلقينه الشهادة، وجزم النووي
باستحباب التلقين بعد الدفن". وقال الشيخ زروق في شرح "الرسالة
والإرشاد" ، وقد سئل عنه أبو بكر بن الصلاح من المالكية، فقال: "هو الذي
نختاره ونعمل به، وقد روينا فيه حديثًا عن أبي أُمامة ليس بالقوي، ولكنه اعتضد
بالشواهد، وعمل أهل الشام قديمًا"، إلى أن قال: "وقال في المدخل: ينبغي
أن يتفقده بعد انصراف الناس عنه، من كان من أهل الفضل والدين، ويقف عند قبره تلقاء
وجهه ويلقنه؛ لأن الملكين عليهما السلام، إذ ذاك يسألانه وهو يسمع قرع نعال
المنصرفين".
وقد روى أبو داود في سننه عن
عثمن رضي اللَّه عنه، قال: "كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من
دفن الميّت وقف عليه، وقال: "استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت، فإنه الآن
يسأل" ، إلى أن قال: "وقد كان سيّدي أبو حامد بن البقال، وكان من كبار
العلماء والصلحاء، إذا حضر جنازة عزى وليّها بعد الدفن، وانصرف مع من ينصرف،
فيتوارى هنيهة حتى ينصرف الناس، ثم يأتي إلى القبر، فيذكرّ الميّت بما يجاوب به
الملكين عليهما السلام، انتهى محل الغرض من كلام الحطاب. وما ذكره من كلام أبي بكر
بن الطلاع المالكي له وجه قوي من النظر، كما سترى إيضاحه إن شاء اللَّه تعالى. ثم
قال الحطاب: واستحب التلقين بعد الدفن أيضًا القرطبي والثعالبي وغيرهما، ويظهر من
كلام الأبي في أوّل كتاب الجنائز يعني من صحيح مسلم، وفي حديث عمرو بن العاص في
كتاب "الإيمان" ميل إليه"، انتهى من الحطاب. وحديث عمرو بن العاص
المشار إليه، هو الذي ذكرنا محل الغرض منه في كلام ابن القيم الطويل المتقدّم.
قال مسلم في "صحيحه"
: حدّثنا محمّد بن المثنى العنزي، وأبو معن الرقاشي، وإسحاق بن منصور، كلّهم عن
أبي عاصم. واللفظ لابن المثنى: حدّثنا الضحاك، يعني أبا عاصم، قال: أخبرنا حيوة بن
شريح، قال: حدّثني يزيد بن أبي حبيب، عن ابن شماسة المهري، قال: حضرنا عمرو بن
العاص، وهو في سياقة الموت، فبكى طويلاً وحوّل وجهه إلى الجدار"، الحديث. وقد
قدّمنا محل الغرض منه بلفظه في كلام ابن القيّم المذكور، وقدّمنا أن حديث عمرو هذا
له حكم الرفع، وأنه دليل صحيح على استئناس الميّت بوجود الأحياء عند قبره.
وقال النووي في "روضة
الطالبين" ، ما نصّه: "ويستحبّ أن يلقن الميّت بعد الدفن، فيقال: يا عبد
اللَّه ابن أمة اللَّه اذكر ما خرجت عليه من الدنيا: شهادة ألا إله إلاّ اللَّه،
وأنّ محمّدًا رسول اللَّه، وأنَّ الجنّة حقّ، وأن النار حقّ، وأن البعث حقّ، وأن
الساعة آتية لا ريب فيها، وأن اللَّه يبعث من في القبور، وأنت رضيت باللَّه ربًّا،
وبالإسلام دينًا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًّا، وبالقرءان إمامًا، وبالكعبة
قبلة، وبالمؤمنين إخوانًا، وردّ به الخبر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
قلت: هذا التلقين استحبّه
جماعات من أصحابنا، منهم القاضي حسين، وصاحب التتمة، والشيخ نصر المقدسي في كتابه
"التهذيب" وغيرهم، ونقله القاضي حسين عن أصحابنا مطلقًا، والحديث الوارد
فيه ضعيف، لكن أحاديث الفضائل يتسامح فيها عند أهل العلم من المحدثين وغيرهم، وقد
اعتضد هذا الحديث بشواهد من الأحاديث الصحيحة؛ كحديث: "اسألوا له
التثبيت" ، ووصية عمرو بن العاص: أقيموا عند قبري قدر ما تنحر جزور، ويقسم
لحمها حتى أستأنس بكم وأعلم ماذا أراجع به رسل ربّي، رواه مسلم في صحيحه، ولم يزل
أهل الشام على العمل بهذا التلقين، من العصر الأول، وفي زمن من يقتدى به"،
اهـ محل الغرض من كلام النووي.
وبما ذكر ابن القيّم وابن
الطلاع، وصاحب المدخل من المالكية، والنووي من الشافعية، كما أوضحنا كلامهم تعلم
أن التلقين بعد الدفن له وجه قوي من النظر؛ لأنه جاء فيه حديث ضعيف، واعتضد بشواهد
صحيحة، وبعمل أهل الشام قديمًا، ومتابعة غيرهم لهم.
وبما علم في علم الحديث من
التساهل في العمل بالضعيف، في أحاديث الفضائل، ولا سيّما المعتضد منها بصحيح،
وإيضاح شهادة الشواهد له أن حقيقة التلقين بعد الدفن، مركبة من شيئين:
أحدهما : سماع الميّت كلام
ملقنه بعد دفنه.
والثاني : انتفاعه بذلك
التلقين، وكلاهما ثابت في الجملة، أما سماعه لكلام الملقن فيشهد له سماعه لقرع نعل
الملقن الثابت في الصحيحين، وليس سماع كلامه بأبعد من سماع قرع نعله؛ كما ترى.
وأمّا انتفاعه بكلام الملقن، فيشهد له انتفاعه بدعاء الحي وقت السؤال في حديث:
"سلوا لأخيكم التثبيت فإنه يسأل الآن" ، واحتمال الفرق بين الدعاء
والتلقين قوى جدًا كما ترى، فإذا كان وقت السؤال ينتفع بكلام الحي الذي هو دعاؤه
له، فإن ذلك يشهد لانتفاعه بكلام الحي الذي هو تلقينه إياه، وإرشاده إلى جواب
الملكين، فالجميع في الأول سماع من الميت لكلام الحي، وفي الثاني انتفاع من الميت
بكلام الحي وقت السؤال، وقد علمت قوة احتمال الفرق بين الدعاء والتلقين.
وفي ذلك كله دليل على سماع
الميّت كلام الحي، ومن أوضح الشواهد للتلقين بعد الدفن السّلام عليه، وخطابه خطاب
من يسمع، ويعلم عند زيارته، كما تقدّم إيضاجه؛ لأن كلاًّ منهما خطاب له في قبره،
وقد انتصر ابن كثير رحمه اللَّه في تفسير سورة "الروم" ، في كلامه على
قوله تعالى: {فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ
الدُّعَاءَ} ، إلى قوله: {فَهُمْ مُسْلِمُونَ} ، لسماع الموتى، وأورد في ذلك
كثيرًا من الأدلّة التي قدمنا في كلام ابن القيّم، وابن أبي الدنيا وغيرهما،
وكثيرًا من المرائي الدالَّة على ذلك، وقد قدّمنا الحديث الدالّ على أن المرائي
إذا تواترت أفادت الحجّة، ومما قال في كلامه المذكور: وقد استدلّت أُمّ المؤمنين
عائشة رضي اللَّه عنها بهذه الآية: {فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} ، على
توهيم عبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه عنهما، في روايته مخاطبة النبيّ صلى الله عليه
وسلم القتلى الذين ألقوا في قليب بدر بعد ثلاثة أيام، إلى أن قال: "والصحيح
عند العلماء رواية عبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه عنهما، لما لها من الشواهد على
صحتها، من أشهر ذلك ما رواه ابن عبد البرّ مصحّحًا له عن ابن عباس مرفوعًا:
"ما من أحد يمرّ بقبر أخيه المسلم كان يعرفه" ، الحديث.
وقد قدّمناه في هذا المبحث
مرارًا، وبجميع ما ذكرنا في هذا المبحث، في الكلام على آية "النمل" هذه،
تعلم أن الذي يرجّحه الدليل: أن الموتى يسمعون سلام الأحياء وخطابهم سواء قلنا: إن
اللَّه يردّ عليهم أرواحهم حتى يسمعوا الخطاب ويردّوا الجواب، أو قلنا: إن الأرواح
أيضًا تسمع وتردّ بعد فناء الأجسام، لأنا قد قدّمنا أن هذا ينبني على مقدّمتين،
ثبوت سماع الموتى بالسنة الصحيحة، وأن القرءان لا يعارضها على التفسير الصحيح الذي
تشهد له القرائن القرءانيّة، واستقراء القرءان، وإذا ثبت ذلك بالسنة الصحيحة من
غير معارض من كتاب، ولا سنّة ظهر بذلك رجحانه على تأوّل عائشة رضي اللَّه عنها،
ومن تبعها بعض آيات القرءان، كما تقدّم إيضاحه. وفي الأدلّة التي ذكرها ابن القيّم
في كتاب الروح على ذلك مقنع للمنصف، وقد زدنا عليها ما رأيت، والعلم عند اللَّه
تعالى.انتهى من تفسير أضواء البيان ج:6,ص:137 ـــــــ 142 .
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ : " وَإِذَا أُدْخِلَ الْمَيِّتُ قَبْرَهُ قَالَ الَّذِينَ
يُدْخِلُونَهُ ( بِسْمِ اللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ، اللَّهُمَّ
سَلَّمَهُ إِلَيْكَ الْأَشِحَّاءُ مِنْ وَلَدِهِ وَأَهْلِهِ وَقَرَابَتِهِ
وَإِخْوَانِهِ ، وَفَارَقَ مَنْ كَانَ يُحِبُّ قُرْبَهُ وَخَرَجَ مِنْ سَعَةِ
الدُّنْيَا وَالْحَيَاةِ إِلَى ظُلْمَةِ الْقَبْرِ وَضِيقِهِ ، وَنَزَلَ بِكَ
وَأَنْتَ خَيْرُ مَنْزُولٍ بِهِ ، إِنْ عَاقَبْتَهُ فَبِذَنْبِهِ وَإِنْ عَفَوْتَ
فَأَنْتَ أَهْلُ الْعَفْوِ ، أَنْتَ غَنِيٌّ عَنْ عَذَابِهِ وَهُوَ فَقِيرٌ إِلَى
رَحْمَتِكَ ، اللَّهُمَّ اشْكُرْ حَسَنَاتِهِ وَاغْفِرْ سَيِّئَاتِهِ وَأَعِذْهُ
مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَاجْمَعْ لَهُ بِرَحْمَتِكَ الْأَمْنَ مِنْ عَذَابِكَ
وَاكْفِهِ كُلَّ هَوْلٍ دُونَ الْجَنَّةِ ، اللَّهُمَّ اخْلُفْهُ فِي تَرِكَتِهِ
فِي الْغَابِرِينَ ، وَارْفَعْهُ فِي عِلِّيِّينَ ، وَعُدْ عَلَيْهِ بِفَضْلِ
رَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ " . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ :
وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا هَذَا الدُّعَاءَ ؛ لِأَنَّهُ مَرْوِيٌّ عَنِ السَّلَفِ
وَمُوَافِقٌ لِلْحَالِ ، وَلَيْسَ فِيهِ حَدٌّ لَا يَتَجَاوَزُ وَلَا نَقْصٌ
عَنْهُ وَبِأَيِّ شَيْءٍ دَعَا جَازَ .



وكتب: إسحاق بن موسى بن الشيخ سيدي
كان الله تعالى لهم ولجميع
المسلمين بمنه وكرمه وفضله وليا ونصيرا ــــ آمين ـــــ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق