الخميس، 19 يناير 2012

وسطية الشريعة الغراء... في مسألة الجلوس للعزاء

بسم الله الرحمن الرحيم
وسطية الشريعة
الغراء... في مسألة الجلوس للعزاء
الحمد لله رب
العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين.
وأشهد أن لا إله
إلا الله وحده لا شريك له إلها واحدا، وربا شاهدا، ونحن له مسلمون، وأشهد أن سيدنا
ونبينا محمدا عبد الله ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله
به الغمة صلى الله عليه، وعلى آله وأزواجه
الطيبين الطاهرين، وصحابته أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فهذه
نقلة يسيرة، أردت بها بيان الهدي النبوي في مسألة الاجتماع للتعزية عند أهل الميت
ومناولتهم الطعام لمن يحل بهم من ضيفان الآفاق والنواحي النائية، ذلك أن الناس في
أيامنا هذه ذهبوا في المسألة مذهبين اثنين هما مذهبا الإفراط والتفريط المذمومان
شرعا، فبين من يبالغ في إقامة المآدب وبناء الخيام، والتنويع في تقديم الشراب
والطعام، واستقبال الهدايا من المعزين من ممثلي قبائلهم وأقاليمهم ومؤسساتهم،
ويتحول مجلس العزاء إلى مناسبة للتباهي في تقديم النحائر والأموال، والنقاشات
السياسية التي لا طائل من ورائها، ويخاض في كل شيء إلا في الميت بذكر محامده والترحم عليه،
والكلام بما يصبِّر المعزَّى ويخفف عنه مصابه، وبين من يقول برفض كل ذلك، بانيا
موقفه على ردة فعل مبالغ فيها إلى حد الجفاء، الذي ليس هو السنة في شيء.
فأردت أن أبين أن
الهدي النبوي القائم على الوسطية في هذه المسألة هو القصد والاعتدال، وأن الأولى
القيام عن أهل الميت بشؤونهم أيام التعزية تخفيفا ومواساة، وعدم تكليفهم والإثقال
عليهم، فإذا أرادوا أن يقدموا ـ بمحض منهم ـ الضيافة والإكرام لضيوفهم ولاسيما
القادمين من آفاق ومناطق بعيدة، من غير مبالغة ولا إسراف ولا تكلف، فلا حرج في ذلك
ولا ابتداع، وإليك بيان ذلك بالدليل الشرعي البيِّن:
فأقول ـ مستعينا
بالله تعالى ـ
أولا التعزية
لغة: مصدر عزَّى تعزية وهو التسلية والتصبير، قال ابن منظور: "العزاء
الصبر عن كل ما فقدت. وقيل حُسْنُه، عَزِي
يَعْزى عَزَاءً ممدود فهو عَزٍ ويقال إنه لعَزِيٌّ صَبُورٌ إذا كان حَسَنَ
العَزَاء على المَصائِب وعَزَّاه تَعْزِيةً على الحذف والعِوَض فتَعَزَّى، قال
سيبويه لا يجوز غيرُ ذلك" إهـ (لسان
العرب 4/2934) .
وقال الزبيدي في تاج العروس: "(
العَزاءُ ) كسَماءٍ : ( الصَّبْرُ ) عن
كلِّ ما فَقَدْت، ( أَو حُسْنُهُ )، ومنه قوْلُهم: أَحْسَنَ اللّهُ عَزاءَكَ، ( كالتَّعْزُوَةِ )" كذا في
النسخِ والصَّوابُ كالتَّعْزِيَةِ .اهـ ج39ـ ص38.
ثانيا التعزية شرعا: وهي كل ما
يشعر بالتسلية، من قول أو فعل كالوصية بالصبر والخير والمعروف للمصاب والمحزون عند
المصيبة .
قال الإمام النووي: "واعلم أن
التعزية هي التصبير، وذكر ما يسلي صاحب الميت ويخفف عنه حزنه ويهوّن مصيبته، وهي
مستحبة، فإنـها مشتملة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي داخلة أيضا في
قوله تعالى: (وتعاونوا على البر والتقوى) وهذا من أحسن ما استدل به في التعزية . اهـ
(الأذكار للنووي 4/140) .
وقال المناوي
التعزية: التصبير، وذكر ما يسلي صاحب
الميت ويخفف حزنه ويهون مصيبته، وذلك لأن التعزية تَفْعلةٌ من العزاء، وهو الصبر،
والتصبير يكون بالأمر بالصبر وبالحث عليه بذكر ما للصابرين من الأجر، ويكون بالجمع
بينهما، وبالتذكير بما يحمل على الصبر. (فيض القدير6/179).

ثالثا ما جاء في فضل إطعام الطعام :
من تأمل الشريعة الربانية وجد أنها
أولت معايش الناس وأرزاقهم عناية عظيمة، فسدت كل طريق لاحتكار الطعام، أو التضييق
على الناس فيه، وفتحت كل طريق يؤدي إلى إطعام الطعام وبذله، ورتبت عليه الأجور
العظيمة.
ومن أوائل الخطاب النبوي المكي في المرحلة السرية يوم لم
يكن مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا حر وعبد، سأله عمرو بن عَبَسَة:(ما الإسلام.؟
فقال صلى الله عليه وسلم: طِيبُ الْكَلاَمِ وَإِطْعَامُ الطَّعَامِ) رواه أحمد، فكان
إطعام الطعام حاضراً في أول خطابات الدعوة المكية، ولما هاجر إلى المدينة كان أول
خطاب له صلى الله عليه وسلم فيها فيه ذكر الإطعام والحض عليه، إذ قال في مقدمه
للمدينة: (يا أَيُّهَا الناس أَفْشُوا السَّلَامَ وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ
وَصِلُوا الْأَرْحَامَ وَصَلُّوا بالليل وَالنَّاسُ نِيَامٌ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ
بِسَلَامٍ) رواه
الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه والدارمي، وصححه الألباني والأرنؤوط .
وسئل
النبي صلى الله عليه وسلم: (أَيُّ الْإِسْلَامِ خَيْرٌ؟ قال: تُطْعِمُ الطَّعَامَ
وَتَقْرَأُ السَّلَامَ على من عَرَفْتَ وَمَنْ لم تَعْرِفْ) متفق عليه.
و في أوصاف الأبرار، وذكر أعمالهم التي استحقوا
بها الجنة، كان من أعمالهم ﴿ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا
وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ
جَزَاءً وَلَا شُكُورًا ﴾ .
كما كان من أوصاف أهل النار، وذكر أفعالهم التي أوجبت
لهم النار أنهم حبسوا الطعام عن المحتاجين، ولم يدعوا غيرهم للإطعام ﴿ مَا
سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ المُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ
المِسْكِينَ ﴾ , وفي آيتين أخريين ﴿ وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ المِسْكِينِ ﴾ .
ولما شرع الله تعالى التقرب إليه بالهدايا والضحايا أمر
بالإطعام منها ﴿ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا البَائِسَ الفَقِيرَ ﴾ وفي آية
أخرى ﴿ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا القَانِعَ وَالمُعْتَرَّ ﴾.
ومن
أسباب النجاة من عذاب النار بذل الطعام للمحتاج إليه ﴿ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ
ذِي مَسْغَبَةٍ ﴾ أي: بذله في المجاعة.
ومِن إطعام الطعام إكْرَام الضيف، قال
حاتم الأصم : "كان يُقال : العَجَلة مِن الشيطان إلاَّ في خَمْس : إطعام
الطعام إذا حضر الضيف، وتجهيز الميت إذا مات، وتزويج البكر إذا أدْرَكَتْ، وقَضاء
الدَّين إذا وَجَب، والتوبة مِن الذَّنب إذا أذْنَب".
وقال
عليه الصلاة والسلام : "إِنَّ فِي الْجَنَّةِ غُرَفًا تُرَى ظُهُورُهَا مِنْ
بُطُونِهَا وَبُطُونُهَا مِنْ ظُهُورِهَا فَقَامَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ لِمَنْ
هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ لِمَنْ أَطَابَ الْكَلَامَ وَأَطْعَمَ الطَّعَامَ
وَأَدَامَ الصِّيَامَ وَصَلَّى لِلَّهِ بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ".
رواه الإمام أحمد والترمذي. وحسّنه الألباني والأرنؤوط.
قال المناوي في تفسير الحديث: (.."لِمَن أطْعَم الطَّعَام" في الدنيا
للعِيال والفقراء والأضياف والإخوان ونحوهم) اهـ .
وخير الناس مَن أطْعَم الطعام؛ لأن إطعام الطّعام دليل على خيريّة الإنسان .
وعن موسى بن أنس عن أبيه قال: سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
(إذا جاءكم الزائر فأكرموه). أخرجه
الخرائطي في مكارم الأخلاق (ص 115 ، رقم 326) ، والديلمي (1/339 ، رقم 1351) .
وأخرجه ـ أيضًا ـ أبو الشيخ في الأمثال (ص 88 ، رقم 148) ، والقضاعي (1/445 رقم
763).
وعن أبي الخير أنه سمع عقبة بن عامر
يقول : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم:( لا خير فيمن لا يُضِيف) و بإسناده قال
: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : (بِئْسَ الْقَوْمُ قَوْمٌ لَا يُنْزِلُونَ
الضَّيْفَ). أخرجه أحمد (4/155 ، رقم 17455) ، قال الهيثمي (8/175) : رجاله رجال
الصحيح غير ابن لهيعة وحديثه حسن . والبيهقي في شعب الإيمان (7/91 ، رقم 9588) .



رابعا إطعام الطعام بعد دفن الميت
عن
عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ
قَالَ:خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
جَنَازَةٍ فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ
عَلَى الْقَبْرِ يُوصِي الْحَافِرَ أَوْسِعْ مِنْ قِبَلِ رِجْلَيْهِ أَوْسِعْ مِنْ
قِبَلِ رَأْسِهِ فَلَمَّا رَجَعَ اسْتَقْبَلَهُ دَاعِي امْرَأَةٍ فَجَاءَ وَجِيءَ
بِالطَّعَامِ فَوَضَعَ يَدَهُ ثُمَّ وَضَعَ الْقَوْمُ فَأَكَلُوا فَنَظَرَ
آبَاؤُنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلُوكُ لُقْمَةً
فِي فَمِهِ ثُمَّ قَالَ أَجِدُ لَحْمَ شَاةٍ أُخِذَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ أَهْلِهَا
فَأَرْسَلَتْ الْمَرْأَةُ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَرْسَلْتُ إِلَى الْبَقِيعِ
يَشْتَرِي لِي شَاةً فَلَمْ أَجِدْ فَأَرْسَلْتُ إِلَى جَارٍ لِي قَدْ اشْتَرَى
شَاةً أَنْ أَرْسِلْ إِلَيَّ بِهَا بِثَمَنِهَا فَلَمْ يُوجَدْ فَأَرْسَلْتُ إِلَى
امْرَأَتِهِ فَأَرْسَلَتْ إِلَيَّ بِهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَطْعِمِيهِ الْأسَارَى - رواه أبو داود في سننه رقم 2894
والبيهقي في دلائل النبوة ، والسنن الكبرى 5/335 ، وأحمد في المسند 5/293- 294 -
والدارقطني 4/685(- وقال الحافظ
الزيلعي: إسناده صحيح ، انظر: نصب الرّاية في تخريج أحاديث الهداية )4/168(. قال الألباني: صحيح.
وقال العلامة المحدث مُلا علي بن سليمان محمد القاري
الحنفي في كتابه "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" في باب معجزات
النبي صلي الله عليه وسلم في شرح هذا الحديث: (هذا الحديث بظاهره يرد على ما قرره
أصحاب مذهبنا من أنه يكره اتخاذ الطعام في اليوم الأول أو الثالث أو بعد الأسبوع
كما في البزازية وذكر في الخلاصة أنه يباح اتخاذ الضيافة عند ثلاثة أيام ، وقال
الزيلعي: ولا بأس بالجلوس للمصيبة إلى ثلاث من غير ارتكاب محظور من فرش البسط
والأطعمة من أهل البيت، وقال ابن الهمام: يكره اتخاذ الضيافة من أهل البيت، والكل
عللوا بأنه شرع في السرور لا في الشرور، قال وهي بدعة مستقبحة ، وروى الإمام أحمد
وابن حبان بإسناد صحيح عن جرير بن عبد الله قال: "كنا نعد الاجتماع لأهل
الميت وصنعهم الطعام من النياحة" انتهى ، ثم قال ملا علي القاري: "فينبغي
أن يقيد كلامهم بنوع خاص من اجتماع يوجب استحياء أهل بيت الميت فيطعمونه كرها أو
يحمل على كون بعض الورثة صغيرا أو غائبا أولم يعرف رضاه أولم يكن الطعام من أحد
معين من مال نفسه لا من مال الميت قبل قسمته ونحو ذلك، وعليه يحمل قول قاضي خان:
يكره اتخاذ الضيافة في أيام المصيبة لأنـها أيام تأسف فلا يليق بـها ما يكون
للسرور، وإن اتخذ طعاما للفقراء كان حسنا، وأما الوصية باتخاذ الطعام بعد موته
ليطعم الناس ثلاثة فباطلة على الأصح وقيل يجوز من الثلث وهو الأظهر . اهـ (مرقاة
المصابيح شرح مشكاة المصابيح 5/482) .
وعن مَرْيَم بنت فَرْوَةَ، أَنَّ
عِمْرَانَ بن حُصَيْنٍ، لَمَّا حَضَرَهُ الْوَفَاةُ، قَالَ:"إِذَا أَنَا
مُتُّ فَشُدُّوا عَلَى بَطْنِي عِمَامَةً، وَإِذَا رَجَعْتُمْ فَانْحَرُوا
وَأَطْعِمُوا" - رواه الطبراني في الكبير، ورواه الحافظ نور الدين علي
بن أبي بكر الهيثمي في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد ج3ص85 - باب في الطعام يصنع .
وعن طاووس بن كيسان وعبيد بن عمير ومجاهد: (إن الموتى
يفتنون في قبورهم سبعاً فكانوا يستحبون أن يطعم عنهم تلك الأيام) ، وفي بعض
الروايات "من يوم دفن الميت" - رواه الإمام أحمد في كتاب الزهد ،
والحافظ أبو نعيم الأصبهاني في كتابه حلية الأولياء وطبقات الأصفياء ج2ص12 والشيخ كمال الدين الدميري من الشافعية في حياة
الحيوان ، والحافظ ابن حجر العسقلاني في المطالب العالية ، انظر كل ذلك (من الحاوي
للفتاوى للحافظ السيوطي -2/168) .
وممن نقل هذا الأثر ـ أيضا ـ من العلماء في كتبهم،
الحافظ أحمد بن حجر العسقلاني في كتابه (المطالب العالية 1/199) ، والحافظ أبو
الفرج عبد الرحمن بن الجوزي في كتابه (صفة الصفوة 1/191) ، والإمام شهاب الدين
أحمد بن حجر الهيثمي في كتابه (الفتاوى الكبرى الفقهية 2/30 – 31) والإمام محمد بن الحسن الواسطي في كتابه (مجمع
الأحباب وتذكرة أولي الألباب 2/444) ، وكلهم صححوا إسناد هذا الأثر ونقلوه في
ترجمة طاووس بن كيسان، وقد روي هذا الأثر عن ثلاثة من كبار التابعين طاووس بن
كيسان ، وعبيد بن عمير ، ومجاهد .
وقال صاحب التحقيق لكتاب المطالب العالية بزوائد المساند
الثمانية للحافظ ابن حجر العسقلاني، الأستاذ المحدث الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي
"إسناده قوي" . (المطالب العالية 1/199) .
قال الحافظ السيوطي: رجال الإسناد الأول رجال الصحيح ،
وطاووس من كبار التابعين قال أبو نعيم في الحلية: هو أول الطبقة من أهل اليمن،
وروى أبو نعيم عنه أنه قال: أدركت خمسين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وروى غيره عنه أنه قال أدركت سبعين شيخا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم،
قال ابن سعد: كان له يوم مات بضع وتسعون سنة، ثم قال السيوطي: فإن وفاة طاووس سنة
بضع عشرة ومائة في أحد الأقوال . اهـ ، (الحاوي للفتاوي 2/169) .
قال السيوطي: وهو – أي عبيد بن عمير - أكبر من طاووس في
التابعين، بل قيل إنه صحابي . اهـ (الحاوي للفتاوي 2/168) ، وقال أيضا: وهما
تابعيان - أي مجاهد وعمير - إن لم يكن عمير صحابياً، إلى أن قال السيوطي- قوله:
(كانوا يستحبون) من باب قول التابعي كانوا يفعلون وفيه قولان لأهل الحديث والأصول
، أحدهما: أنه من باب المرفوع وأن معناه كان الناس يفعلون ذلك في عهد النبي صلى
الله عليه وسلم ويعلم به ويقرّ عليه والثاني: أنه من باب العزو إلى الصحابة دون
انتهائه إلى النبي صلى الله عليه وسلم . اهـ (الحاوي للفتاوي 2/173) . اهـ .
وكلاهما حجة كما هو معلوم .
وَعنِ الأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ
: كنت أسمع عُمَر بْنَ الْخَطَّابِ ، رَضِيَ الله عَنْهُ يَقُولُ
: لاَ يَدْخُلُ رجل مِن قُرَيش فِي بَابٍ إِلاَّ دَخَلَ مَعَهُ ناس فَلا أَدْرِي
مَا تَأْوِيلُ قَوْلِهِ حَتَّى طُعِنَ عُمر فَأَمَرَ صُهَيْبًا أَنْ يُصَلِّيَ
بِالنَّاسِ ثَلاَثًا ، وَأَمَرَ بِأَنْ يَجْعَلَ لِلنَّاسِ طَعَامًا ، فَلَمَّا
رَجَعُوا مِنَ الْجَنَازَةِ جاءوا وقد وُضِعَتِ الْمَوَائِدُ، فَأَمْسَكَ النَّاسُ
عَنْهَا، لِلْحُزْنِ الَّذِي هُمْ فِيهِ، فَجَاءَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ
الْمُطَّلِبِ قَالَ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ مَاتَ رَسُول اللَّه صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَكَلْنَا بَعْدَهُ وَشَرِبْنَا ، وَمَاتَ أَبُو
بَكْرٍ فَأَكَلْنَا بَعْدَهُ وَشَرِبْنَا، أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِنْ هَذَا
الطَّعَامِ، فَمَدَّ يَدَهُ وَمَدَّ النَّاس أَيْدِيَهُم فَأَكَلُوا، فَعَرَفْتُ
تَأَويل قَوله.
رواه أحمد بن منيع بسند فيه علي بن
زيد بن جدعان، انظر مطالب
العالية في (باب صنعة الطعام لأهل الميت) (1/198-199) وقال صاحب التحقيق لكتاب
المطالب العالية بزوائد المساند الثمانية للحافظ ابن حجر العسقلاني، الأستاذ
المحدث الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي: إسناده حسن.
أما حديث جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
الْبَجَلِيِّ (كُنَّا نَعُدُّ الِاجْتِمَاعَ إِلَى أَهْلِ الْمَيِّتِ وَصَنِيعَةَ
الطَّعَامِ بَعْدَ دَفْنِهِ مِنْ النِّيَاحَةِ) ـ الذي رواه الإمام أحمد في مسنده:ج2/ص204 ح6905 ـ :فإنه لا يحرم الإطعام عن الميت
المسلم عقب دفنه، وإطلاق المنع من صنع الطعام عقب دفن الميت مردود، بل ورد عكس ذلك
في كتب الحديث والفقه، وهو صنع الطعام في هذه الحالة، وذلك لمَّا جاء نعي جعفر بن
أبي طالب رضي الله عنه، قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: (اصنعوا لآل جعفر طعاما
فقد جاءهم ما يشغلهم) رواه الترمذي وابن ماجه والدارقطني والحاكم وصححه ووافقه
الذهبي .
وعَنْ عَائِشَةَ زَوْج النبي - صلى
الله عليه وسلم - أَنَّهَا كَانَتْ إِذَا مَاتَ الْمَيِّتُ مِنْ أَهْلِهَا
فَاجْتَمَعَ لِذَلِكَ النِّسَاءُ، ثُمَّ تَفَرَّقْنَ، إِلاَّ أَهْلَهَا
وَخَاصَّتَهَا، أَمَرَتْ بِبُرْمَةٍ مِنْ تَلْبِينَةٍ فَطُبِخَتْ، ثُمَّ صُنِعَ ثَرِيدٌ
فَصُبَّتِ التَّلْبِينَةُ عَلَيْهَا ثُمَّ قَالَتْ كُلْنَ مِنْهَا فَإِنِّي
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « التَّلْبِينَةُ
مَجَمَّةٌ لِفُؤَادِ الْمَرِيضِ، تَذْهَبُ بِبَعْضِ الْحُزْنِ » – الحديث . رواه البخاري ح5417 ومسلم ح5900، (فتح الباري
1/146) و (التاج الجامع للأصول(3/208) .
وورد بذلك ـ أيضا ـ نصوص وآثار ثابتة عن الصحابة رضوان
الله عليهم أجمعين كما قدمنا، وخرج بذلك قول من أطلق أن صنع الطعام عقب الدفن حرام،
من غير استثناء ولا تقييد ولا تخصيص، فأين قائل ذلك من كل هذه الأثار والسنن
الواضحة المتعاضدة، نسأل الله أن يقينا فتنة الغلو والجفاء.
وقد ورد في مشروعية الصدقة عن الميت أحاديث وآثار كثيرة،
كحديث عَائِشَةَ
- رضي الله عنها - أَنَّ رَجُلاً قَالَ
لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - إِنَّ أُمِّي افْتُلِتَتْ نَفْسُهَا،
وَأَظُنُّهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ، فَهَلْ لَهَا أَجْرٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ
عَنْهَا قَالَ « نَعَمْ » – (رواه الشيخان والنسائي، وانظر التاج 1/383) فهذا
الحديث وحده كاف حجة ودليلا، إذ لم يقيد صلى الله عليه وسلم التصدق عن الميت بوقت
دون وقت، ومن زعم التخصيص أو التقييد بوقت طُلب منه الدليل والبرهان والحجة، لأنه
تخصيص بلا دليل، إذ لا تخصيص بدون مخصص ولا تقييد بدون مقيد.
وأما الزعم بأن
حديث جرير بن عبد الله البجلي يخصص عموم حديث عائشة الصحيح، فهذا ـ أيضاـ زعم باطل
لم يقل به أحد من أهل العلم لا سلفا ولا خلفا.
وعقدُ كتب الحديث لباب في ماورد في فضل صنع الطعام مشهور
بعد باب التعزية، أو في أبواب الصدقة، كصحيح مسلم، وسنن أبي داود، والترمذي والنسائي،
وابن ماجه، ومطالب العالية، ومجمع الزوائد، وكثير من علماء الحديث عقدوا في كتبهم
(أبواب الإطعام عن الميت) وذلك بعد باب التعزية مباشرة، مما يدل على أن الإطعام عن
الميت في هذه الحالة مستحب .
خامسا دليل المانعين
أمـّا المنع الوارد في حديث جرير بن عبد الله البجلي
(كنا نعد الاجتماع لأهل الميت وصنعهم الطعام من النياحة) رواه أحمد وابن ماجه،
فمخصوص في تـهيئة الطعام للنائحات، أو لقصد مجرد الاجتماع للطعام أو للمعزين فقط،
أو من تركة الميت قبل قسمتها، لا لقصد إطعام الطعام، أو إكرام الضيوف أو التصدق عن
الميت الذي أجمعت عليه الأمة بغير قيد بوقت معين بل في كل وقت وحين، عقب الدفن أو بعده ، ومعلوم
كما تنص القاعدة المشهورة أن الأمور بمقاصدها، لقوله صلى الله عليه وسلم ( إنما
الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى) رواه الشيخان وأصحاب السنن .
وأقوال العلماء في ذلك خير شاهد: قال الإمام النووي في
كتابه المنهاج (و - يُسنُّ - لجيران أهله تـهيئة طعام يشبعهم يومهم وليلتهم، ويحرم
تـهيئته للنائحات) قال شارحه ابن جحر الهيثمي في تحفة المحتاج: لأنه إعانة على
معصية، وما اعتيد من جعل أهل الميت طعاما ليدعوا الناس عليه بدعة مكروهة – اهـ
(تحفة المحتاج 3/207- 208). وانظر قوله "ليدعوا الناس عليه" وهو مجرد
دعوة الناس لأجل الطعام فقط، لا لغرض صحيح آخر كإكرام الضيف، أو الصدقة عن الميت ..ونحوه
من الأمور المشروعة، فلحق الفساد العمل من جهة اعتلال النية والقصد، ليس للعمل
بمجرده أولذاته.
و قال ابن قدامة ـ رحمه الله تعالى ـ
: "وجملته أنه يستحب إصلاح طعام لأهل الميت، يبعث به إليهم، إعانة لهم، وجبرا
لقلوبهم؛ فإنهم ربما اشتغلوا بمصيبتهم وبمن يأتي إليهم عن إصلاح طعام لأنفسهم" المغني
(3/496رقم المسألة387) فقول ابن قدامة
هذا فيه دليل على أن الاجتماع للعزاء وتقديم الطعام لأهله هما قوله ورأيه.
وقال أبو بكر بن علي بن محمد الحدادي
العبادي اليمني - الزَّبِيدِيّ (المتوفى : 800هـ)
"إذَا أَوْصَى أَنْ يَتَّخِذ
طَعَامًا لِلنَّاسِ بَعْدَ مَوْتِهِ لِلَّذِينَ يَحْضُرُونَ التَّعْزِيَةَ
ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ يَجُوزُ ذَلِكَ مِنْ
الثُّلُثِ لِلَّذِي يَطُولُ مُقَامُهُ عِنْدَهُمْ وَلِلَّذِي يَجِيءُ مِنْ بَعِيدٍ
وَيَسْتَوِي فِيهِ الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ وَلَا يَجُوزُ لِلَّذِي لَا يَطُولُ
مُقَامُهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ. (الجوهرة النيرة الجزء6 الصفحة 214)
وجاء في كتاب الدر المختارالجزء6
صفحة 665 وفيها عن أبي جعفر أنه إن أوصى باتخاذ الطعام بعد موته و بأن يطعم الذين
يحضرون التعزية، جاز من الثلث، ويحل لمن طال مقامه ومسافته، لا لمن لم يطل، ولو
فضل طعام إن كثيرا يضمن وإلا لا ا هـ.

وقال الشيخ محمد خطيب الشربيني في كتابه مغني المحتاج : "( وَ ) يُسَنُّ
(لِجِيرَانِ أَهْلِهِ ) وَلِأَقَارِبِهِ الْأَبَاعِدِ وَإِنْ كَانَ الْأَهْلُ
بِغَيْرِ بَلَدِ الْمَيِّتِ ( تَهْيِئَةُ طَعَامٍ يُشْبِعُهُمْ ) أَيْ أَهْلَهُ
الْأَقَارِبَ ( يَوْمَهُمْ وَلَيْلَتَهُمْ ) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ
{ لَمَّا جَاءَ خَبَرُ قَتْلِ
جَعْفَرٍ: اصْنَعُوا لِآلِ جَعْفَر طَعَامًا فَقَدْ جَاءَهُمْ مَا يَشْغَلُهُمْ }
حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ ، وَلِأَنَّهُ بِرٌّ وَمَعْرُوفٌ
قَالَ الْإِسْنَوِيُّ، وَالتَّعْبِيرُ بِالْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ وَاضِحٌ إذَا
مَاتَ فِي أَوَائِلِ اللَّيْلِ ، فَلَوْ مَاتَ فِي أَوَاخِرِهِ فَقِيَاسُهُ أَنْ
يُضَمَّ إلَى ذَلِكَ اللَّيْلَة الثَّانِيَة أَيْضًا لَاسِيَّمَا إذَا تَأَخَّرَ
الدَّفْنُ عَنْ تِلْكَ اللَّيْلَةِ ( وَيُلَحُّ عَلَيْهِمْ ) نَدْبًا ( فِي
الْأَكْلِ ) مِنْهُ إنْ اُحْتِيجَ إلَيْهِ لِئَلَّا يَضْعُفُوا، فَرُبَّمَا
تَرَكُوهُ اسْتِحْيَاءً أَوْ لِفَرْطِ الْحُزْنِ، وَلَا بَأْسَ بِالْقَسَمِ إذَا
عَرَفَ الْحَالِفُ أَنَّهُمْ يَبرُّونَ قَسَمَهُ (مغني المحتاج 1/367- 368) .
قال الحافظ السيوطي: أن سنة الإطعام سبعة أيام بلغني
أنـها مستمرة إلى الآن بمكة والمدينة ، فالظاهر أنـها لم تترك من عهد الصحابة إلى
الآن وأنـهم أخذوها خلفا عن سلف إلى الصدر الأول .
إهـ (الحاوي للفتاوي 2/183) .
أما وجه عدّه من النياحة: فقد قال الهيثمي في التحفة: "وَوَجْهُ
عَدِّهِ مِنْ النِّيَاحَةِ مَا فِيهِ مِنْ شِدَّةِ الِاهْتِمَامِ بِأَمْرِ
الْحُزْنِ وَمِنْ ثَمَّ كُرِهَ لِاجْتِمَاعِ أَهْلِ الْمَيِّتِ لِيُقْصَدُوا
بِالْعَزَاءِ، قَالَ الْأَئِمَّةُ بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَنْصَرِفُوا فِي
حَوَائِجِهِمْ فَمَنْ صَادَفَهُمْ عَزَّاهُمْ .....إلى أن يقول: نَعَمْ إنْ فُعِلَ
لِأَهْلِ الْمَيِّتِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُمْ يُطْعِمُونَ مَنْ حَضَرَهُمْ لَمْ
يُكْرَهْ "– اهـ من تحفة المحتاج، ج:11 صفحة:440.
ومعنى ذلك: أن الممنوع هو مجرد الاجتماع لأجل الطعام، أو
لقصد العزاء فقط، مما يثير الهموم والأحزان، أما إن صنع أهل الميت والجيران وغيرهم
طعاما لباقي أهل الميت القريبين له مع العلم بأن هناك من يأكل معهم من الضيوف
المسلمين لم يكره؛ لأن هذا ليس من قبيل النياحة، بل من باب المعروف والإحسان
والصدقة، فرسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم يقول فيما أخرجه الشيخان (وَمَنْ كَانَ
يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ).
وجميع عبارات العلماء من المحدثين والفقهاء تشير إلى أن
سبب الحِرمة مقصور في هيئـة مخصوصة من فعل أمور غير مشروعة، كتهيئة الطعام
للنائحات، أو لأجل اجتماع الناس على أكله فقط، أو لجلوس أهل الميت لقصد عزاء الناس
إليهم، أو لأجل جمع الناس للعزاء على أهل الميت فقط .. ونحو ذلك .
أما إطعام الطعام، أو إكرام الضيوف المعزين، أو الصدقة
عن الميت ـ سواء كانت عقب الدفن أو بعده ـ فليست داخلة في هذا الباب، وليست مقيدة
بوقت دون وقت كما قدمنا؛ لأن هذه المسائل في واد و النياحة في واد آخر، لا يخلط بينـهما
إلا من قصر فهمه.
سادسا الجواب عن دليل المانعين
تبين مما سبق أن أظهر دليل عند المانعين من الاجتماع
وإطعام الطعام عند العزاء من غير اعتداد بالضوابط التي أوردناها سلفا هو الأثر الذي
روي عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه: ( كنا نعد الاجتماع وصنعة الطعام
لأهل الميت أو عند أهل الميت أو الأكل عند أهل الميت من النياحة ) هذا الحديث عليه
مأخذ حديثي ومأخذ فقهي.
أما بالنسبة للناحية الحديثية فهذا
الحديث مروي من طريق: هشيم بن بشير عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن
جرير، أخرجه ابن ماجة في سننه، وأيضاً أخرجه الإمام أحمد من طريق راوٍ يقال له:
نصر بن باب عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن جرير، فـنصر بن بابٍ
اتهم بالكذب قال البخاري: يرمونه بالكذب، وهذا من مشايخ الإمام أحمد القلائل جداً
الذين تكلم فيهم بالضعف بل بالكذب، مشايخ الإمام أحمد الذين رموا بالكذب قلة جداً،
ومنهم هذا الشيخ، فمتابعة نصر بن باب لـ هشيم لا تعويل عليها من الأصل فاطرحها
جانباً، فلا تعويل على رواية نصر بن باب .
بقيت رواية هشيم بن بشير عن إسماعيل
عن قيس عن جرير، فهشيم مدلس، وتدليسه في الحقيقة مؤثر، وخاصة إذا تفرد بإخراج
الحديث ابن ماجة في سننه من بين أصحاب الكتب الستة، فتفرد ابن ماجة بإخراج الحديث
بهذا السند مشعر بشيء من الضعف، لكن التعويل في التضعيف على أنه معنعن الإسناد،
والحديث أورده الدارقطني في كتاب العلل الجزء المخطوط، وقال: رواه شريج بن يونس و
الحسن بن عرفة عن هشيم عن إسماعيل بن أبي خالد، ورواه خالد المدائني فذكر إسناداً
لـ خالد، لكن خالداً -أصلاً- متروك وكذاب، ثم قال الدارقطني في خواتيم مقالته: وخرجوه
عن هشيم عن شريك عن إسماعيل، فكأن هناك واسطة بين هشيم وبين إسماعيل، ومن الذين
خرجوه؟ الله أعلم لكن الآن الإسناد
الموجود أمامنا: هشيم عن إسماعيل و هشيم عنعن، وعنعنته مؤثرة مضرة، فتدليسه من
النوع الشديد، فالحديث ضعيف لا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد حسنه
بعض العلماء الأفاضل المعاصرين، لكن الذي تطمئن إليه النفس أن الحديث لا يثبت عن
رسول الله عليه الصلاة والسلام، ومن حسنه يلزمه أن يأتينا بتصريح لـ هشيم بالسماع؛
لأن هشيم مدلس، هذا شيء.
و أما الناحية الفقهية للحديث: فالحديث
على فرض ثبوته تضمن فقرتين "كانوا يعدون الاجتماع" و"صنعة الطعام
لأهل الميت"، كما يفعل عندما يموت ميت، يأتي المعزون للتعزية ويصنعون لهم
طعاماً فالحديث اجتمع فيه فقرتان، فهل
الواو في قوله: ( كانوا يعدون الاجتماع وصنعة الطعام ) للتشريك أي: كانوا يعدون
الاجتماع مع الأكل أو الواو بمعنى: أو؟ الظاهر الأول، والله أعلم، وعلى هذا درج
الفقهاء، لكن إسناد الحديث -أصلاً- فيه نظر، وأقوال الفقهاء ينصب كثير منها على
الاقتران بين الجلوس وبين الأكل.
سابعا دليل الجلوس للتعزية من سنته
الفعلية ـ عليه الصلاة والسلام ـ
أما إذا مات ميت فتعزية من مات له
ميت مشروعة، فالرسول عليه الصلاة والسلام عزى أصحابه،فعن أُسَامَة بْنِ زَيْدٍ -
رضي الله عنهما - قَالَ أَرْسَلَتِ ابْنَةُ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -
إِلَيْهِ إِنَّ ابْنًا لِي قُبِضَ فَائْتِنَا . فَأَرْسَلَ يُقْرِئُ السَّلاَمَ
وَيَقُولُ « إِنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ وَلَهُ مَا أَعْطَى وَكُلٌّ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ
مُسَمًّى فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ » . فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ تُقْسِمُ
عَلَيْهِ لَيَأْتِيَنَّهَا، فَقَامَ وَمَعَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَمُعَاذُ
بْنُ جَبَلٍ وَأُبَىُّ بْنُ كَعْبٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَرِجَالٌ، فَرُفِعَ
إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الصَّبِىُّ وَنَفْسُهُ تَتَقَعْقَعُ
- قَالَ حَسِبْتُهُ أَنَّهُ قَالَ - كَأَنَّهَا شَنٌّ، فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ،
فَقَالَ سَعْدٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَذَا فَقَالَ « هَذِهِ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ فِي
قُلُوبِ عِبَادِهِ، وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ »
متفق عليه.
الشاهد: أن الرسول صلى الله عليه
وسلم أتاها للتعزية، وجلس ورُفع إليه الطفل، وذرفت عيناه بالدمع، فسأله سعد بن
عبادة : ما هذا يا رسول الله؟! قال: ( هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده) فالرسول
صلى الله عليه وسلم جلس وجلس معه سعد بن عبادة وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَأُبَىُّ بْنُ
كَعْبٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وطائفة من أصحابه، فهم جلسوا مع الرسول عليه الصلاة
والسلام مجتمعين للتعزية.
و ـ أيضاً ـ ذهب الرسول عليه الصلاة
والسلام للتعزية عندما استشهد جعفر رضي الله عنه، فبعد ثلاثة أيام ذهب إلى بيت
جعفر، فعزى آل جعفر على موت جعفر، وأتي له بأولاده فدعا لهم عليه الصلاة والسلام.
ثم ـ أيضاً ـ في الصحيحين أن عائشة
رضي الله عنها كان إذا مات لها الميت وانصرف الناس وبقي أهل الميت، أمرت بالتلبينة
فصنعت وقالت: إنها مذهبة للحزن، مجمة لفؤاد المريض، فكانت تأمر لهم بنوع من الطعام
ليأكلوه وقد تقدم الحديث كاملا، فالشاهد:
أن أصل التعزية مشروع، وصنع الطعام لأهل الميت مطلوب، كما أن التعزية في حقيقتها
نوع من أنواع المواساة وجبر للخواطر وكلها معان حثت عليها نصوص شريعتنا واقتضتها
مبادئها السمحة.
ثم إن حديث الرسول صلى الله عليه
وسلم: ( اصنعوا لأهل جعفر طعاماً فقد أتاهم ما يشغلهم ) العلة أنه قد أتاهم ما
يشغلهم، وهذا يفيد أنهم إذا كانوا غير مشغولين عن صناعته؛ فلا يشرع صنع الطعام
لهم، بل يصنعونه هم، فيختلف الحكم باختلاف التعليل الوارد في الحديث.
فالخلاصة: إذا كان يشق على أهل الميت
صنع الطعام ترفع عنهم هذه المشقة، لحديث جعفر عند من صححوه، وقد قال بمقتضاه
الجمهور، والله أعلم.
أما حديث جعفر : ( أمهل الرسول
ثلاثاً ثم ذهب إلى آل جعفر ) فصحيح وتخصيص التعزية بثلاثة أيام لا أعلم عليه
دليلاً، فقد جاء في سنن أبي داود وابن ماجه والنسائي: "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ جَعْفَر أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْهَلَ آلَ
جَعْفَرٍ ثَلَاثًا أَنْ يَأْتِيَهُمْ ثُمَّ أَتَاهُمْ فَقَالَ لَا تَبْكُوا عَلَى
أَخِي بَعْدَ الْيَوْمِ ثُمَّ قَالَ ادْعُوا لِي بَنِي أَخِي فَجِيءَ بِنَا
كَأَنَّا أَفْرُخٌ فَقَالَ ادْعُوا لِي الْحَلَّاقَ فَأَمَرَهُ فَحَلَقَ
رُءُوسَنَا".
وَعَنْ عَبْدِ الله بْنِ جَعْفَرَ ،
قَالَ : "لَمَّا أُصِيبَ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَتَى رَسُولُ الله
صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم أَسْمَاءَ، فَقَالَ لَهَا : أَخْرِجِي إِلَيَّ وَلَدَ
جَعْفَرَ فَخَرَجُوا إِلَيْهِ فَضَمَّهُمْ إِلَيْهِ وَشَمَّهُمْ قَالَ :
فَدَمَعَتْ عَيْنَاهُ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ الله أُصِيبَ جَعْفَرُ ؟ قَالَ :
نَعَمْ، أُصِيبَ الْيَوْمَ فَرَجَعَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم
إِلَى مَنْزِلِهِ فَقَالَ: إِنَّ بِأَهْلِ جَعْفَرَ شُغْلاً عَنْ أَنْفُسِهِمْ ،
فَاصْنَعُوا لَهُمْ طَعَامًا فَابْعَثُوا بِهِ إِلَيْهِمْ قَالَ عَبْدُ الله بْنُ
أَبِي بَكْرٍ: فَمَا زَالَتْ سُنَّةً حَتَّى تَرَكَهَا النَّاسُ" رَوَاهُ
أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَةَ.
وهكذا فإن الاجتماع للعزاء، وإطعام
الطعام، وإكرام الضيف، مواساة للمصابين، أمور حث عليها ديننا القويم، وأكد على
ضرورة مواساة أولـيـاء الـميت، ومشاركتهم في العزاء، وتقديم العون لهم، وندب
المسلمين إلى كل ذلك في مختلف الأزمان والعصور.
فقد ورد عن رسول اللّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: (من عزى مصابا فله مثل أجره) أخرجه الترمذي (3/385 ، رقم 1073) وابن ماجه (1/511 ،
رقم 1602) والبيهقي (4/59 ، رقم 6880) .
وعنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( ما من مؤمن يعزي أخاه بمصيبة إلا كساه اللّه من
حلل الكرامة يوم القيامة). أخرجه ابن ماجه
(1/511 ، رقم 1601) وأخرجه ـ أيضًا ـ الديلمي (4/27 ، رقم 6081) والرافعي (2/250)
قال المناوي (5/495) : قال النووي في الأذكار : إسناده حسن .
فـهـذه أدلـة عـامـة تـنـص على مشروعية الاجتماع واللقاء عند المصاب وزيارة أولياء
الميت ومـواسـاتـهـم، وتقديم العزاء لهم، إضافة
إلى الأدلة العامة الواردة بشأن التعاون على البر والتقوى، ومـواسـاة الإخوان، وزيارة
المؤمنين وإدخال السرور على قلوبهم، وصلة الأرحام..
وغيرها من العموميات التي تشمل هذا النوع من الاجتماع و الائتلاف والتعاون، وتدفع الإنسان
المؤمن للوقوف إلى جنب أخيه المؤمن في الشدائد ومواطن الابتلاء.
وأما قـضـيـة إطعام المعزين فهي دأب جرى عليها عرف الإنسان، واندفع نحوه بدافع من
فطرته الـبـشـرية، كما أنها وجدت حوافزها ودوافعها الشرعية من خلال النصوص الكثيرة
الواردة في الـحـث عـلـى إكرام الضيف، وإيصال البر والمعروف إلى الناس، وإنفاق ما
زاد عن الحاجة، وبذل الـمستطاع من المال والمتاع، وأوضح دليل على ذلك هو ما رتبت
الشريعة من عظيم الأجر والمثوبة على إطعام الطعام، وإشباع المؤمنين تقربا إلى
اللّه تعالى، كما مرَّ معنا.
فأين من هذا الفعل الذي تمليه الفطرة الإنسانية السليمة السوية، وتقتضيه مبادئ
الشريعة وقواعدها وأصولها ومقاصدها العامة، وتؤكده نصوص الشريعة الصحيحة الصريحة
ادعاءُ من يدعي أنه بدعة ..!
اللهم إلا أن يكون قصده شيئا خارجا
عما ذكرنا بضوابطه التي بينا وأوضحنا، فله ذلك بحجة وبرهان، لا بمحض هوى واستحسان.
وهـل يعقل أن تحرم الشريعة الإسلامية إكرام الضيف المعزي وتقديم الطعام له، لاسيما
وأن أغلب هؤلاء المعزين يأتون من مناطق بعيدة ونائية، ويتركون أعمالهم وشؤونهم
الخاصة، قاصدين مواساة أولـيـاء الـميت؛ أداء للواجب الديني والإنساني.
من هنا نرى بعض علماء الأمة حين ينظر
إلى الواقع بعين الإنصاف والحكمة، يستدرك ما أطلقه من التحريم بالقول: ( وَإِنْ
دَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى ذَلِكَ جَازَ، فَإِنَّهُ رُبَّمَا جَاءَهُمْ مَنْ يَحْضُرُ
مَيِّتَهُمْ مِنْ الْقُرَى وَالْأَمَاكِنِ الْبَعِيدَةِ، وَيَبِيتُ عِنْدَهُمْ،
وَلَا يُمْكِنُهُمْ إلَّا أَنْ يُضَيِّفُوهُ)
"المغني لابن قدامة ج:5,ص:48".
ثامنا الخاتمة
هكذا يتبين أن ديننا الحنيف حين يؤخذ
بوسطيته وسماحته، بعيدا عن تأثير الأغراض والحظوظ والنزعات والأهواء، لا ينفر بحال
من أن تُشرَبَه العقول والفطر السليمة، فهو كل الحسن والجمال والسهولة واليسر، فمن
أوغل فيه برفق وصل، ومن انبت انقطع وضل.
وليس في الاجتماع للتعزية عند أهل
الميت ـ قصدا إلى التخفيف عنهم ومواساتهم في مصيبتهم ـ حرج أيُّ حرج، ما لم يصاحب
ذلك ارتكاب مالا يناسب مقام التعزية من الخوض واللغو والعبث، أو الإسراف والتبذير
في تنويع المآكل والمشارب، حتى تتحول المناسبة إلى أشبه بالفرح منها بالحزن فيدخل
الحظر والمنع والبدعة بتلك الأمور الخارجة على أصل الفعل المباح فينسحب عليه حكمها، وقد نهينا عن التكلف والسرف
في مناسبات الأفراح فكيف إذن في مناسبات العزاء والمواساة، والموفَّق من وُفق لهذه
الوسطية وهذا القصد، وقد قيل ..كلا طرفي قصد الأمور ذميم.



كتبه/ إسحاق بن موسى بن الشيخ سيدي
كان الله تعالى له ولجميع المسلمين
ـــ بمنه وفضله وكرمه ــ وليا ونصيرا
آمين

هناك تعليق واحد:

  1. بارك الله فيكم وشكرا على هذا البحث المعمق والشامل الذي قطع لسان كل متنطع.

    ردحذف